فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يَدُقّ خَلاَياها ويَأْكُل شهْدَها ** ويَترك للذِّبّان ما كان من فَضْل

وقال أبو عثمان المازنيّ لبعض من راءى فهتك الله عز وجل سِتره:
بَينا أنا في تَوْبتي مُستَعْبِرا ** قد شَبهوني بأبي دُوَاد

وقد حملتُ العِلْم مستظهرًا ** وحَدَّثوا عنّي بإسناد

إذ خَطر الشيطان لي خَطْرةً ** نُكست منها في أبي جاد

وقال ابن أبي العتاهية: أرسلني أبي إلى صُوفيّ قد قَيّر إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك؛ فقال: النَّظرُ إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف. قال: ثم بدا له في ذلك فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه:
مُقَيرَ عينِه وَرَعَا ** أردتَ بذلك البِدَعا

خَلَعْتَ وأخبثُ الثقليـ ** ـن صُوفي إذا خَلعا

يحيى بنُ عبد العزيز قال: حدَّثني نُعيم عن إسماعيل، رجل من ولد أبي بكر الصدِّيق، عن وَهْب بن مُنَبِّه. قال: نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فخًّا، فجاءت عُصفورة، فوقعت عليه، فقالت: مالي أَراك مُنْحنيًا؟ قال: لكثرة صَلاتي انحنيتُ؛ قالت: فمالي أراك باديةً عِظامُك؟ قال: لكثرة صِيامي بَدَت عِظامي؛ قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لِزَهادتي في الدُّنيا لَبِسْتُ الصُوف؛ قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال أتوكّا عليها وأقضي بها حوائجي؟ قالت: فما هذه الحبة في يَدِك؟ قال: قُرْبان إنْ مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياه، قالت: فإني مِسْكينة، قال: فخُذيها. فقَبَضت على الحبّة فإذا الفخ في عُنقها، فجعلت تقول: قَعِي قعِي. قال الحسن: تَفْسيره. لا غَرني ناسكٌ مُراءٍ بعدك أبدًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}
خداع المنافقين: إظهار الوفاق في الطريقة واستشعار الشِرْك في العقيدة.
وخداع الحق إياهم: ما توهموه من الخلاص، وحكموا به لأنفسهم من استحقاق الاختصاص، فإذا كُشِفَ الغطاء أيقنوا أن الذي ظنُّوه شرابًا كان سرابًا، قال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
وقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا} الآية: علامة النفاق وجود النشاط عند شهود الخلق، وفتور العزم عند فوات رؤية الخلق.
وقوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} الآية: أخَسُّ الخَلْقِ من يَدَعُ صدار العبودية، ولم يجد سبيلًا إلى حقيقة الحرية، فلا له من العز شظية، ولا في الغفلة عيشة هنية. اهـ.
إن اللّه تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك، لا تراء أهلك في الحضر، ولا وفقتك في السفر، اعمل للّه، ودع الناس عنك.
وقال الجنيد: آخر مقام العارف الحرية.
وقال بعضهم: لا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى اللّه مسترقا.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخَادِعُونَ نَبِيَّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ الْإِيمَانِ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَمُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَنَائِمِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُخَادِعُهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى خِدَاعِهِمْ، فَسَمَّى الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِهِ عَلَى مُزَاوَجَةِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}.
وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لِمَالِكِهِ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَهُ، وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قَبُولِ إيمَانِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يُبْطِنُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} قِيلَ فِيهِ: إنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ وَجْهِهِ، فَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَثُرَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ، فَهُوَ حَقِيرٌ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ مِنْهُمْ بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ إلَّا يَسِيرًا مِنْ الذِّكْرِ، نَحْوَ مَا يُظْهِرُونَهُ لِلنَّاسِ دُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ إلَى الصَّلَاةِ كُسَالَى مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ، وَالْكَسَلُ هُوَ التَّثَاقُلُ عَنْ الشَّيْءِ لِلْمَشَقَّةِ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ الدَّوَاعِي إلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى الصَّلَاةِ إلَّا مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ خَوْفًا مِنْهُمْ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا}.
فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}: يَعْنِي مُتَكَاسِلِينَ مُتَثَاقِلِينَ، لَا يَنْشَطُونَ لِفِعْلِهَا، وَلَا يَفْرَحُونَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآثَارِ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ».
فَكَانَ يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا.
وَفِي آثَارٍ آخَرَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ»؛ فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ أَنْصَبَهُمْ عَمَلُ النَّهَارِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ إلَيْهَا، وَتَأْتِي صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصَّلَاةِ دُنْيَا وَلَا فَائِدَتَهَا أُخْرَى؛ فَيَقُومُونَ إلَيْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ وَمَنْ قَامَ إلَيْهَا مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِيَّةِ إتْعَابِ النَّفْسِ وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا، طَالِبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَاَلَّذِي يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ وَهُمْ يَشْهَدُونَهَا لَغْوًا، فَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الشِّرْكُ، فَأَمَّا إنْ صَلَّاهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ يَعْنِي وَيَرَوْنَهُ فِيهَا، فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْإِيمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الرِّيَاءَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِهَا طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلدُّنْيَا وَطَرِيقًا إلَى الْأَكْلِ بِهَا، فَهَذِهِ نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا}: وَرَوَى الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ. تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ. يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا».
فَذَمَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلَّةِ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَرَاهَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَبَلِ، فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهَا بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ فَرْضًا الْفَاتِحَةُ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ إقَامَةُ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا، وَالِاسْتِوَاءُ عِنْدَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا.
فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»، «وَعَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فَقَالَ لَهُ: فَارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا».
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ سِوَاهَا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ بِهَا ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ صَلَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وَمَنْ خَشَعَ خَضَعَ وَاسْتَمَرَّ، وَلَمْ يَنْقُرْ وَلَا اسْتَعْجَلَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: هَذَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجَزَةٌ فِي تَمَامٍ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى}
نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ويوضح الحق: إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئًا بدون علم الله، وقد يمكر إنسان بك، وهو يعلم أنك تعلم بمكره، فهل هذا مكر؟ لا؛ لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئًا. والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور. وكان يجب أن يأخذوا درسًا من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم. وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار. فمن الأقدر- إذن- على الخداع؟
إن الذكي حقًا هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع. وكلمة خدع تعني مكر به مكرًا فيبدي له قولًا وفعلًا ويخفى سواهما حتى يثق فيه. وبعد ذلك ينفذ المكر. وهناك كلمة خدع وكلمة خادع. والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم، بل قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}.
وخادع تعني حدوث عمليتين، مثل قولنا: قاتل فلان فلانا. فالقتال يحدث بين طرفين، وكذلك نقول: شارك فلان فلانا؛ لأن مادة فاعل تحتاج إلى طرفين. لكن عندما نقول قتل، فالفعل يحدث من جانب واحد. والخداع يبدأ من واحد، وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعًا آخر، وتسمى العملية كلها مخادعة، ويقال: خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه. ومن إذن الذي غلب؟ إن الذي بيَّت الخداع ردًا على خداع خصمه هو الغالب.
ولأن الخداع يحدث أولًا، وبعد ذلك يتلقى المخدوع الأمر بتبييت أكبر؛ فهو خادع، والذي يغلب نقول عنه: أخدعه أي أزال خداعه. والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين، فالمنافقون أظهروا الإيمان أولًا وأضمروا الكفر، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين، وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك؛ لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول المخادع؛ لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمَّى بها نفسه. وسبحانه يفعل الفعل، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسمًا، والحق يعطينا هنا مشاكلة ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شرًا للمؤمنين، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله.
ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين، وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم، ولا نقول: الله ماكر. ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى}.
إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة. ويقيسون لهفة اللقاء لأنها تحدد درجة المحبة. والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته:
لقاء الاثنين يبين حَدَّهْ ** تلهف كَيْفٍ واستطالة مدَّهْ

فلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة، فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلاث خطوات، وهذا معناه تقصير زمن الابتعاد، وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلام درجة المودة، فقد يسلم أحدهما على الآخر ببرود أو بنصف ود، أو بود كبير، أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالأحضان؛ وكذلك المدة التي يحتضن كلاهما الآخر، هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث؟